العلاقة بين الهندسة المعمارية وعلم النفس
كان السياسي البريطاني الأشهر، ونستون تشرشل، أول من عبر عن قناعته
بالعلاقة المتبادلة بين صحة الإنسان والسكن، على الرغم من ذهنه المشغول
بمحاربة الآلة العسكرية النازية إبان الحرب العالمية الثانية. ونقل عن
تشرشل قوله عام 1943: «حينما نعيد تشكيل محيطنا نعيد بالأحرى تشكيل
نفوسنا».
بعد تشرشل بنحو 50 سنة أدخلت منظمة الصحة العالمية، التابعة للأمم المتحدة
«متلازمة المبنى - المرض» رسميا في «إنسكلوبيديا الأمراض المعاصرة»،
واعترفت به بالتالي كمرض متميز له أعراضه وخصائصه وطرق علاجه أيضا. وصار
مختصر (Sick - Building - Syndrome – SBS) يطلق على مجموعة الأعراض التي
يتسبب بها السكن السيئ للإنسان. وعوامل السكن المرضية هي التهوية السيئة،
الإضاءة القليلة، الدهاليز الطويلة، الغرف الضيقة، التصميم المقبض للنفس،
الألوان القاتمة.. إلخ. أما الأعراض فهي الجزع والصداع والعينان الدامعتان
وضيق النفس والميلانكوليا والتهاب البشرة والحكة. ودليل وجود مثل هذا
المرض، حسب تعريف المرض في «إنسكلوبيديا الطب»، هو اختفاء هذه الأعراض عند
الانتقال إلى سكن آخر جدير بلقب السكن الإنساني الصحي.
على أي حال، فإنه منذ عدة عقود، تنصب جهود الأطباء النفسانيين على شروط
السكن في المباني الكبيرة، وخصوصا السكنية، والمكاتب الكبيرة والمعامل
والشركات، بل حتى المدارس ورياض الأطفال، لكنهم نادرا ما منحوا انتباههم
إلى المستشفيات والمستوصفات وعيادات الأطباء. هذا في حين أن العلاقة تكون
على أشدها وضوحا، وفي قمة أهميتها، في هذه المستشفيات بسبب ارتباط صحة
الإنسان فيها مباشرة بالشروط الصحية المتوفرة فيها.
في ألمانيا يتخصص نحو 20 مهندسا معماريا حاليا في مجال السكن الصحي، أو
بالأحرى في مجال «الهندسة المعمارية النفسية»، ويشكلون نقابة لهم منذ نحو
عقدين، وفضلا عن بحثهم المستمر في العلاقة بين هندسة البناء والمرض، فإنهم
يعملون بجهد على تطوير موضوعات علمية حول بناء المستشفيات والعيادات من أجل
مستقبل بلا SBS، إحداهم هي المهندسة الباحثة روتراوت فالدن، من جامعة
كوبلنز التي عكفت 15 سنة على دراسة مختلف المستشفيات والعيادات المنتشرة في
ألمانيا، وتوصلت إلى نتائج مدهشة حول علاقة المرض بالمستشفيات، وحول
انعكاس السكن السيئ على حياة الإنسان وسلوكه.
ذكرت فالدن أن دراستها تثبت أن 60 في المائة من مستشفيات ألمانيا مصممة
هندسيا بشكل يعزز فيه الشكوك حول علاقتها بمتلازمة SBS. بما في ذلك
مستشفيات حديثة بنيت خلال السنوات العشر الماضية. فما زال التصميم المفضل
للمستشفيات عبارة عن دهاليز طويلة تنتشر غرف المرضى، وغرف العلاج، على
جانبيها، أرضيات رمادية تنبعث منها روائح المواد المعقمة، سقوف جرداء
وبيضاء، طوابق عالية ومصادر إضاءة اصطناعية.
ومثل هذه الشروط، حسب الباحثة التي تلقب نفسها بـ«مهندسة نفسية»، تسبب
الحزن والكآبة وصولا إلى SBS. فهي تدعو إلى هندسة بناء مستشفيات جديدة تعين
الأطباء في عملهم، والمرضى في معاناتهم، بمعنى تحويلها إلى مصحات للشفاء
وليس إلى أبنية تبعث على الكآبة. وترى أن تغييرات بسيطة، وليست بنيوية
بالضرورة، يمكن أن تحيل المستشفيات إلى بيوت لعلاج وإراحة المرضى.
واعتمدت فالدن في تقييمها للمستشفيات على طريقة لتصنيفها في أربعة مجالات
وهي 1 - المعايير الجمالية في البناء، 2 - التصاميم الهندسية، 3 - العوامل
الاجتماعية، 4 - العوامل البيئية. ومنحت المستشفيات درجات حسب موقعها
الجغرافي، تصميم المبنى، مدخل المستشفى، الممرات، الردهات، ثم أخيرا غرف
المرضى.
وهناك نتائج مهمة للدراسة الطويلة التي أجرتها فالدن. فالتغيرات في
التصاميم والديكور والإضاءة التي أدخلتها على بعض غرف المرضى أدت فعلا إلى
تحسين مزاج بعضهم، وتقلص عدد الأيام التي يقضيها المرضى في المستشفى بالنظر
إلى أن الإجراءات النفسية الهندسية قد عجلت في شفائهم، وأدى تحسن الوضع
النفسي لنزلاء المستشفيات إلى تقليص استخدام العقاقير لمضادة للألم
والأدوية المضادة للاكتئاب، وهذا في حد ذاته، مردود نفسي كبير للمريض
ومردود مالي كبير لإدارات المستشفيات. بل إن تغيير ديكورات المستشفيات،
تقليل الدهاليز، تحسين الديكورات الداخلية لغرف الأطباء والممرضات، زاد من
نشاط هؤلاء، بل إن الأخطاء الطبية تقلصت أيضا.
اتضح أيضا من خلال متابعة المستشفيات لهذه السنين الطويلة أن اختيار الموقع
مهم جدا. لن يفرح المريض داخل مستشفى بعيدة داخل الغابات (الطبيعة) على
الرغم من أن الحديقة لا غنى عنها للمستشفى، لأن الإنسان المريض ميال للبقاء
قريبا من وسائط النقل التي تقوده إلى البيت. يمكن هنا اختيار موقع قريب من
المدينة مع فرض شروط مشددة لمنع تسلل ضجيج المدينة إلى الغرف. فضلا عن ذلك
فقد كانت خرائط الطرق داخل المستشفيات، وكذلك اللافتات التي تدل على الطرق
إلى مختلف الأقسام، غير كافية وتؤدي إلى ضياع المرضى والزوار في أروقة
المستشفى وحدائقها. وفقدان هذا الوقت، في حالات الطوارئ، يمكن أن يودي
بحياة المريض. ولهذا ينبغي بناء تصميم خرائط المستشفيات بشكل يجنب المرضى
والزوار عناء البحث والضياع.
درجة الحرارة في غرف المرضى غالبا ما كانت أعلى من اللازم ولا تضمن النوم
المريح لأحد، كذلك التهوية. مكيفات الهواء منصوبة على درجات غير مناسبة،
وهناك ضوضاء الغرف الأخرى تصل إلى مسامع المرضى أثناء مواعيد الزيارات.
ومعظم الغرف لا تستفيد من الإضاءة الصناعية (المصابيح) وتكتفي بنور النهار
الجانبي القادم من الشبابيك. هذا في حين أن ضوء النهار أصح وأقوى، وخصوصا
حينما يسقط على الإنسان من الأعلى، ولهذا ينبغي، في هندسة بناء مستشفيات
المستقبل، أن يدخل الضوء إلى الغرف من الأعلى، أو من السقوف. الضوء الطبيعي
العمودي (المقبل من أعلى) أقوى 3 مرات من النور الأفقي (المقبل من
الشبابيك)، ثم إنه مهم في محاربة الأمراض (الأشعة فوق البنفسجية)، وفي
توفير فيتامين دي للمرضى.
بالنسبة للمهندسة النفسية فالدن، فإن مداخل المستشفيات بحد ذاتها تبعث على
الخوف والكآبة، ففيها يشعر المريض أنها مداخل «إلى العالم الآخر» وليس
مداخل إلى استعادة صحته. وصالات استقبال المرضى يجب أن تتحول إلى صالات
استقبال فنادق أو باحات استقبال في دور الضيافة، وينبغي أن تكون مضيئة
ومزدانة باللوحات الفرحة والأزهار.
وتطالب الباحثة وزملاؤها بإعادة النظر في تصاميم المستشفيات والعيادات بسبب
وجود تأثير مباشر لهندسة البناء على صحة الإنسان، فالإنسان مفطور نفسيا
على حب التدخل في محيطه كي يغيره بما يضمن له الشعور بالخير والعافية، غير
أنه يتعذر على المريض في معظم غرف وصالات المستشفيات التدخل في ألوانها
ولوحاتها وإضاءتها، وتكفي هنا قضايا صغيرة لتحسين مزاج المريض ورفع
معنوياته، مثل أن يقرر بنفسه درجة إضاءة الغرفة، ودرجة حرارتها، أو وضع
لوحة أو صورة. وترى الباحثة أن الجدران البيضاء لا تمتلك أي مكان في
مستشفيات المستقبل، ولا بد هنا من سيادة الألوان الفرحة، وخصوصا ألوان
البحر المتوسط، في ألوان الجدران والسقوف واللوحات. وتقصد هنا ألوان البحر
والسماء والزوارق.. إلخ.
وسواء في مستشفى للأطفال، أو للنساء، أو في صالة العمليات وفي غرف الطوارئ،
يمكن تجميل الغرف بالألوان واللوحات. ومن المهم تقليل عدد الأجهزة في
الغرف؛ لأن ذلك يبعث الكآبة في قلب المرضى، وإذا تعذر وضع اللوحات على
الجدران فلا بأس من تعليقها في السقوف.
لدليل على مدى تأثير شروط السكن على صحة الإنسان هو ما وصل إلى كولون
الألمانية عبر البحر من لندن على الرغم من تحذير تشرشل السالف الذكر؛ إذ
نشرت مجلة «الطبيب الألماني» يوم 30 مارس (آذار) 2006 خبرا مفاده أن وزارة
الصحة في لندن هي أكبر مسبب لمرض SBS المنتشر بين موظفيها.
جاء ذلك في دراسة أجرتها جامعة لندن حول الكثير من مباني العاصمة
الإنجليزية، وشملت أكثر من 4000 موظف، فالمبنى يعاني من قلة الإضاءة، من
سوء التهوية، من درجات الحرارة العالية في الغرف، ومن الرطوبة طبعا؛ ولذلك
فقد كان موظفو هذه الوزارة أكثر من يعاني من SBS، وأكثر مرضا وغيابا من
غيرهم في الوزارات والمديريات الأخرى. وتشكو السلطات الإنجليزية من أن
الإجازات المرضية تبتلع ما يقدر بنحو 4.8 مليون يوم عمل سنويا.
منقول عن
جريدة الشرق الأوسط